النكتة عند بطرس عنداري


   سيداتي، آنساتي، سادتي
   طُلبَ مني أن أتكلّمَ الليلةَ عن معرفتي بالغائب الحاضر، حبيبِ قلوبنا جميعاً، الاعلامي النادر بطرس عنداري، شرط أن لا تزيدَ كلمتي عن خمسِ دقائقَ فقط. فشكرتُ اللهَ تعالى على نعمةِ الاختصارِ التي كان ينادي بها فقيدُنا الغالي، الذي طالما همس في آذاننا عندما يطيلُ أحدُهم الكلام: أف.. شو بيحكي.. طَوَشْنا.
   بطرس عنداري، سيدُ النكتة المرتجلة بلا منازع، فما أن يراك حتى يسلخَك واحدةً تضحكُك لمدة أسبوع، ولهذا سأتناول هذه الناحية المفرحة من حياته، لأن الابتسامة لم تفارقْ شفتيه أبداً. وها أنا أخبركم ماذا فعل بي عندما التقيته في إحدى الحفلات، وكان برفقته الصديق أكرم المغوّش، فلقد قال لي بصوتٍ عالٍ كي يسمعَه أكرم:
ـ انتبه من أكرم..
فسألته باهتمام بالغ:
ـ ولماذا يجب ان أنتبه منه؟
فقال بجديةٍ بالغة:
ـ بإمكانه أن يجعلَك درزياً بأقل من خمس دقائق.
   ومرّة، كنّا نستمع الى الشاعر الصديق فؤاد نعمان الخوري وهو يغنّي بصوته العذب إحدى قصائده الجميلة، فاقترب مني بطرس وقال:
ـ فؤاد يخوّف.. مركزُك الشعري مهدّد.
فقلت له:
ـ فؤاد آدمي لا يخوّف.
فقال:
ـ يا غشيم.. فؤاد شعره جميل وصوته جميل، أما أنت فشعرك جميل، وصوتك مثل الدبّور بالجرّة.
   ذات يوم سألته:
ـ لماذا لا تنشر صورتك مع المقال يا استاذ بطرس؟
فشذرني بغضبٍ وقال:
ـ تطلّع بي جيّداً.. هل أُشبه صوفيا لورين أو مارلين مونرو أو فاتن حمامة؟
فأجبته:
ـ بالطبع لا..
فقال:
ـ إذن.. سأترك مرض نشر الصور لغيري.
   وكم كانت فرحته عظيمة عندما اعترفتُ له قائلاً:
ـ أنا معجب جداً بزاويتك "كي لا ننسى".
فضربني على كتفي وقال:
ـ وأنا معجب بشعرك.. والجريدة جريدتك.. أنشر معي، وسأطعمك كل شهر "همبرغر بيغ ماك" من ماكدونالد.. اتفقنا؟.
   وعندما بدأت أنشر معه، اختار لزاويتي اسماً لن يخطرَ على بال أحد: "قذائف ورد"، وبعد "القذيفة" الأولى دعاني الى العشاء في منزله، حتى أتذوقَ طعامَ "أم زياد" اللذيذ، فأعجبتني صورة له وضعت في إحدى زوايا البيت، فطلبتها منه، فضحك وقال:
ـ رُحْ علّق صورة مار شربل.. واترك صورة مار بطرس هنا.
   فلم ألتفت له، بل حمَلت صورته ووضعتها في مدخل بيتي، وكان كلما زارني يتطلع بالصورة ويرمي السلام على نفسه: "السلام عليكم".
   وذات يوم انتقدني أحد الزملاء، فقررت أن أردّ عليه، ولكن بطرس، رحمه الله، رفض أن ينشرَ ردّي، فغضبت منه وقررت أن أضع صورتَه بالمقلوب، رأسه من تحت وقدماه من فوق، ولحسن حظّي وسوء حظّه، أتى لزيارتي في اليوم ذاته بغية مراضاتي، فما أن ولج عتبة الدار كي يرمي السلام على صورته، حتى وجدها مقلوبةً رأساً على عقب. فصاح بأعلى صوته:
ـ العمى بقلبك.. أرجعها كما كانت، معي ضغط دم.
   ومرة كتبت مقالاً أسخرُ به من جمعية نسائية قررت، أيامَ الحرب اللعينة، أن تهاجمَ المتاريس في لبنان بغية إزالتِها، وطلبتُ من النساء المرفهات إرسالَ خادماتِهن بدلاً عنهنّ، فقصّ بطرس المقال، وأرسلَه الى رئيسة الجمعية، التي حشدت، نكايةً بي، آلاف النساء وهاجمنَ المتاريس الموجودة عند المتحف اللبناني في بيروت، ليهاجمَني بطرس بمقالٍ عنونه هكذا: فقأنَ حصرمة بعين شربل بعيني.
   وأذكر عندما دعيت للمشاركة بمهرجان المربد الشعري في العراق عام 1987، كيف همس في أذني بجدية بالغة: ـ أين ستخبىء مصرياتك اثناء السفر؟
فقلت له:
ـ في جيبي.
فشد على يدي وهو يقول:
ـ أنت مسطول حقاً، ضعها في الكلسات التي تلبسُها، فتريحك وأنت تمشي، ولا أحد ينشلك كما نشلوني أنا.
   وعندما سافرت كنت أسيرُ طوال الوقت على الدولارات التي خبأتها في جواربي، وكنت الثاني، بعد بطرس، الذي يدوس على رقبة الدولار، ويمشي بأمان وفرح.
   وكما تعلمون، لم يكتب بطرس عنداري عن شاعر أكثر مما كتب عني، فقررت أن أردّ جميلَه، وأنشرَ أولَ كتابٍ له "كي لا ننسى"، وما أن حملَ نسخةً من الكتابِ بين يديه، وقرأ على غلافه أبياتي الزجلية هذه:
بطرس عنداري خْساره
يخلق منّو واحد بسّ
كاتب في عندو شْطاره
ما توقّف عَ حدود الأمس
جايي لهالدنيي زْياره
خلاّها تتحوّل عرس
وصفّى للحرف مْناره
زاغت منها عيون الشمس
   حتى غمرني وقال:
ـ عندي "بورة" أرض صغيرة في لبنان، حابب أن أكتبها باسمك، شرط أن تنقلَ أوراقَ نفوسِكَ من "مجدليا" الى "متريت".
   والمضحك المبكي أنني عندما سألت فقيدَنا الغالي، قبل وفاته بأسابيع، ذلك السؤالَ الذي فاجأه:
ـ أين تريد أن تدفن، في "متريت" أم في "سيدني"؟
فما كان منه إلا أن ضحك وقال:
ـ بطرس عنداري لا يموت.
    لقد صدقت والله يا ابا زياد، فمثلك لا يموت، وها هم أحبابُك، يلتفون حولك للمرة الثانية، ولسانُ حالهم يردد: كاسك يا بطرس.
وشكراً..
**