أنطوان سعادة ونقدة عصفور

   قبل سفره بساعات اتصل بي الشاعر أنطوان سعادة وأخبرني أنه ترك عند صديقه "ملكون" ديوانه "نقدة عصفور"، دون أن يعلم أنه ارتكب خطأً فادحاً عندما أسمعني كلمة "إهداء" لا يكتبها سوى أديب كبير متمكن باللغة العربية وقواعدها وطريقة سبكها وحسن اختيار مفرداتها.. والإهداء يقول:
"أهدي كتابي الى الذي أعادني على جناح غربته الى بيتي وأهلي وعائلتي.
إلى الذي تعرّفت به وشعرت كأنني أعرفه منذ دهور، فمن يدري لعلّ أرواحنا كانت متعانقة؟!
إن الرياح الكونية تتقاذف الكلمة كي تضعها في دائرة النور حيث أنت يا أستاذ شربل.
دع كلمتي تتعرى وتستحمّ وتذوب في أبعادك النورانية كي تتطهّر.
دعني في غربتك يا شربل بعيني.. إنها وطني"
في 8/4/2013
أنطوان سعادة"
**
   والخطأ الفادح الذي ارتكبه يكمن في اللهفة الصارخة التي رماها كقنبلة صوتية في كياني بغية الحصول على "الاهداء" أولاً والديوان ثانياً.
   ولكي تزداد لهفتي، تأخّر أخونا "ملكون" في تسليمي الديوان عدة أيام، وكوني لا أعرف رقم هاتفه، رحت أتصل يومياً بصديقنا المشترك الشاعر عصام ملكي، وأطالبه بالتفتيش عن "ملكون" هذا بأية طريقة كانت كي لا يضيع أجمل إهداء سمعته في حياتي: "دعني في غربتك يا شربل بعيني.. إنها وطني".
   الكتاب يتأخّر.. ولهفتي تصرخ وتنفجر، وابن الملكي يعمل المستحيل من أجل طمأنتي على الكتاب..
وفي صباح يوم جميل من أيام نيسان المشرقة حمل لي بشرى مجيء "ملكون" الى بيتي بعد ساعات وبيده "نقدة عصفور" أنطوان سعادة الذي خلته طار مني.
الديوان مؤلف من 144 صفحة من الحجم الوسط، طبع في لبنان عام 1993، وكتب مقدّمته شاعر "مهرجان تحت الشمس" الاستاذ راجي عشقوتي، وفيها يقول: "شعر أنطوان سعادة غاص في شموخ إرادة وإباء، في جديّة تحليل وتعليل، فهو إما جبل ممعن في العلو، وإما وادٍ مسترسل في العمق".
   ومن جديّة التحليل والتعليل هذه سأخبركم عن شعر أنطوان سعادة، وسأحلّل قصيدة واحدة، لا غير، تختصر الديوان، لا بل الكون كله، منها الانطلاق واليها العودة، تحتضن الجميع ولا يمكن لأحد أن يحتضنها، انها قصيدة "ألله":
رسمت الدني بأفكار مجتمعه
وعطيتها من عزّتك سمعه
   انطوان سعادة من البيت الأول يصاحب الله، يكلّمه كصديق شاطره الخبز والملح، عرف أسرار حكمته، وطريقة عمله، وراح يشيد به كرسام رائع، وكمفكّر عملاق، وكعزيز نفس، لا يعطي لأحد سوى السمعة الحسنة..
   وبعد أن استعذب، سبحانه وتعالى، الشعر، بدأ أنطوان بتحذيره من بني آدم:
لكن بنزوتنا عكسنا السير
ضعنا وخنقنا النور بالشمعه
   أنت يا ألله، يبتهل أنطوان، أعطيتنا كوناً كاملاً متكاملاً، فبدأنا بنزواتنا الوقحة الكافرة ندمّره، ونغيّر مساره.
لقد ضعنا يا ألله، وبتنا نسير في الظلام بعد أن "خنقنا النور بالشمعة"، والشمعة، عند أنطوان، تختصر الشمس والقمر وباقي النجوم والكواكب.. إنها مصدر اللهيب الشعري الذي إذا انطفأ تنطفىء القصيدة.
وقبل البشر قبل النغم والطير
كانت الأرض بنظرتك دمعه
   فلسفة أنطوان سعادة في هذا البيت طاغية، مشرئبّة، تختصر مجلداً، فقبل أن يفكّر الله بتكوين الانسان، والطير، أي باقي المخلوقات، وقبل أن يزرع أنغام الفرح في حناجر البلابل والحساسين، بدأ ينظر الى "أرض" لم يخلقها بعد نظرة الأب الخائف، وبما أنه العارف بكل شيء، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، راح يبكي الأرض، التي تكوّنت، ليس من تراب كما نراها الآن، بل من دمعة إلهية.
   ولا أظنّ أن أحداً قد سبق أنطوان سعادة الى اختصار الأرض، بجهاتها الأربع، بقاراتها الخمس أو الستّ، لا فرق، ببحورها ومحيطاتها وأنهرها وجداولها، بجبالها ووديانها وسهولها "بدمعة" ساخنة، انحدرت من "نظرة" الرب، لتؤنبنا على ما اقترفت أيدينا.
بجمعه انت كوّنتها بالخير
ونحنا بخبرة شرّنا المشبوه
عنّا ثقه منهدّها بجمعه
   أنطوان سعادة، لا يرحم بني جنسه، عندما يخاطب السيّد الأوحد، يعريهم أمامه، يفضح "شرّهم المشبوه"، ويصيح بصوت خنقته العبرات: الأرض التي أوجدتها بسبعة أيام نحن قادرون على هدمها بسبعة أيام أيضاً.. فارحمنا.
ولا أعتقد أن الله سيرحمنا يا اخي أنطوان، ما دام الشر يغمر الأرض كطوفان بغيض، يهدم بيوت الآمنين، يدمّر قراهم ومدنهم، يرميهم كاللقطاء على أبواب النزوح والتهجير، يجرف أرواح الملايين من الأبرياء، فكيف لا تتساقط الأرض "كدمعة" حمراء من عين الله.
أنطوان سعادة يعرف كيف يلتقط الكلمة الناصعة ليحوّلها الى قصيدة، تتحوّل فيما بعد إلى لوحة فنيّة تختصر الوجود بحكمة شعرية تحمينا من شرّ عالم فاسد.
**